أسطورة الجنون ..
تحدث الصمتُ .. بعد طول صمت
تحدث ليروي
قصة الجنونِ حينما كان صبيا ً
كان الجنون يسكن الدار
كان كما عصفورُ النهار
كان كما الفراشة تجذبه الأنوار
كان كما الطيور
يحلقُ ويلهو ويدور
يرى الحياة خلقت له دون الناس
يرى صورته جميلة ً في المرآة دون وسواس
يرى الدنيا أمانا ..
والبحر سكناً والروض جناناً..
كان يحب عيناه ويداه وقلبه..
كان يحلم بملاكٍ يضمه.
وشب يوماً إلى سور الدار
شب ليري النهار
شب متشوقاً ليرى الحياة والدنيا ..
فُتن بها ! وظن أن تلك هي الجنة والمنيا ..
دعا ربه يوماً..
توسل إليه دوما ..
تمنى أن يطأ الأرض بخطاه
تمنى أن يغدو يافعاً .. يحيا ويعشق
مثلما يرى أولئك المشاه ..
ونسى أنه مازال صبياً !!
وظل كل ليل ٍ ينتظر
ويهمس إلى النجم كم هو بالنور منبهر..
وإذا بالفجر يوماً ناداه..
قال له..
اليوم سوف تلقاه..
إنتظر نور النهار..
إنه يسكن خلف البحار ..
إنتظره. إلى أن يأذن له ربه ..
وجاء النهار..وعجب له النهار !!
عجب كيف سيحيا في الأرض..
كيف سيدرك ما هو الحق وما هو الفرض !
متى يصمت ومتى يتحدث
متى يسعى ومتى يتريث..
قال له النهار..
إن الدنيا لا تدوم سوى لله ..
فإن فرحت فلا تنساه
وإن حزنت فلا تسلاه ..
ولم يعي الجنون إلى حديث النهار ..
ظل في الأرض ذهاباً وإياباً
ظل يحي أياماً وشهور
كان رقيقاً مشرقاً .. ومازال مبهور
وذات حين ..
سمع صوتاً يناديه ..
صوتاً. ليس كما صوت البشر
نظرإليه .. رأى وجها ً يشبه وجه القمر ..
رأه ملاكاً
ظن النهار منحه إياه .. وأغمض عيناه
أغمض الجنون عيناه ليحلم بالملاك ..
لايدرى انه أغمض عيناه .. وسار إلى الهلاك
وحلم به .. عيناً تفهمه
وقلبا ً يناجيه ..
يدا ً تحضنه ..
وفي الليل يسكن إليه ويحميه
ورأى الملاك يهبه دون أن يتمنى
فعشقه! وأخذ في عشقه يتغنى ..
وأصبح يشدو بحبه له أينما كان
أصبح الفرح في قلبه يضيق بالأركان
آمن بالملاك . وأسكنه العنان ..
وكلما إشتاق إلى رؤياه
رفع بصره إلى السماء
لم يدرك أن الرفعة ليست سوى لله
لم يدرك أنه ليس لنا سوى أن نسكن دار الفناء
ومر الوقت لذة بعد لذة ..
وياويلاه ..
أنساه الملاك حب الآلـــه.
لم يبصر بعد. كيف ستكون عقباه ..
وكما هي الحياة ..
غاب النهار..
وماتبقى منه سوى الزبد فوق الأنهار..
وجاء الليل والشتاء
جاء المطر كالسيل .. وجاء معه البكاء..
بدأ الملاك يقتضب ..
حيناً يبتعد .. وحينا ً يقترب!!
كان الجنون صبياً . صغيراً عفوياً ..
وكان الملاك حنوناً . كتوماً ..
كان يرضى .. فينحت له من الثلوج قصوراً يسكنه بها ..
وكان يغضب .. فيحطم القصور .. ويقذفه بها !!
ويصبح الثلج نارا ً.. حارا ً
يحرق قلب الجنون !
وإستمرت المأساة ..
وفجأة ثار الملاك ..
قال له ..
أنت لست صبيا ً، بل أنت شيطان !!
أبصر عملك بعينيك وكف عن العميان ..
قال له ..
أنت قبيحا ً .. رديئا ً
وحطم له المرأة ..
أنت عليلا .. ضئيلا ً
ولايرغب في حبه وهواه !
قال له ..
أنا بشرٌ ولست ملاك ..
أنا حسابك في دنياك ..
فلن أمهلك التوبة ..
ليس لك سوى العذاب ..!!
وطال العذاب والعقاب ..
وعاد الجنون بالليل إلى الدار ..
حطم ما تبقى من المرأة
وصدق الملاك فيما رواه ..
وأصبح يوصد النوافذ .. ويسدل الستاار .. ويغلق الأبواب
أصبح يحيا بين ألم .. ودمع ٍ وعتاب
وفاض الدمع .. إلى أن أطفأ نور قلبه ..
وكل ليل ٍ يلقى فوق الوسادة ألمه ..
ويغفو ..
يغفو فإذا بالحزن كابوساً يواتيه ..
وفي كل غفوةٍ . يقبض من روحه ويضنيه
وأستيقظ الجنون ..فإذا به شاب !!!
شاب الجنون ..!!!
شاب قبل أن يدرك بضعٌ وعشرون ..!!
وكلما طل من سور الدار..
ما عاد يرى النهار..
ما عاد يتذوق جمال الأنهار
ولون الحزن الجدران ..
وطغى به على السلوى والنسيان ..
بين رمشاه لؤلؤة ٌ من السواد ..
وفي قلبه يلملمُ هموم العباد ..
وكلما رأى الشمس والنور
كلما رأى طفلا ً صغيرا ً يلعب ويدور
يتذكر . كيف كان طيرا ً يحلق في السماء
يتذكر . كيف إنقضى عمره منه هباء ..
يتذكر . الصبا ..
ويعود به الدمع والشجون ..
فيدرك . كم كان هو مفتونٌ ... مجنون ٌ .
.............................................................................................
خواطر منقولة